|
خريستو المرّ، الثلاثاء ٨ تمّوز / يوليو ٢٠٢٥
«ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله»، ردّد يسوع مرّة قيل إنّه فيها جرّبه الشيطان بعد صيام طويل بأن يحوّل الحجارة إلى خبز ليأكل. يريد الخونة في الداخل والعدوّ في الخارج، أن نتحوّل إلى بشر يركضون خلف المأكل والمشرب أساساً، مع شيء من اللذة لاحتمال الإذلال. إن انصعنا، تحوّلنا إلى عبيد. لا شكّ أنّ الحاجات الأساسية للحياة ضرورة قصوى، ولكنّنا، كبشر، نحن أبعد من حاجات الجسد، إنّنا نطلب الحياة، والحياة ليست العيش، هي أبعد منه. الحياة تتجسّد في قلوب تطلب الحرّية والعدالة، ومن أجل هاتين يبذل الشهداء أنفسهم. لا يذهب إنسان طوعاً إلى الشهادة من أجل حاجات الجسد، بل حاجات الروح، أي حاجات قلب الإنسان الذي يطلب خبز الحرّية، الكرامة، وهذا خبز من عجينة العدالة والقدرة. تجربة تحويل الحجر إلى خبز، عاشها يسوع كإنسان صائم، ومُتعَب، وجائع. كانت التجربة تضعه أمام خيار التوجّه نحو الخبز، نحو الالتهام، نحو الطبيعة المحض، نحو المخلوق، لكي يستمرّ في العيش، وهو أمر بديهيّ. لكنّ يسوع زلزل البديهيّ، وقال إنّ الحياة الحقّة تكون بالتوجّه نحو الله، بأكل خبز الكلمة الإلهيّة. الصوم، في معناه الأخير، يهدف إلى التخفّف من تخصيص الوقت للطعام، من أجل خلق مساحة أوسع للمناجاة، ويهدف إلى قول بالجسد إنّ الله هو الحاجة الأخيرة الموجودة خلف كلّ حاجات، فكلّ الحاجات ظلُّ الحاجة إليه هو، هو الحياة، بالمعنى المطلق للكلمة. هو الحاجة الكبرى. جواب يسوع يؤكّد تفسيرنا، إذ يقول «ليس بالخبز وحده... يحيا... الإنسان». إذاً، التجربة كما عاشها المسيح هي بالفعل تجربة إخطاء مصدر الحياة: أهو الإله الله، أم صنم الخليقة؟ هذه التجربة في عمقها تضع يسوع أمام تجربة ترك الاهتمام بالمعنى الأخير للحياة، ألا وهو الحياة قرب الله بحرية ومحبّة وكرامة، والخضوع للخوف من الموت (جوعاً). هي تجربة الهروب من الخوف من الموت بطلب الأمان في الطعام، فتتحقّق رغبة الجسد على حساب رغبة الروح العيش في كنف الله عيشاً يتجسّد في الأرض عدلاً ومحبّة وحرّية وحبّاً ومشاركة. نحن جميعاً، أمام نفس التحدّي اليوم. نكتب هذا وأهلنا في غزّة لا يصومون طوعاً وإنّما يُجَوّعهم العدوّ في عمليّة إبادة، ويقتلهم ويضع أمامهم المغريات ليتركوا حرّيتهم وأرضهم مقابل الأمان؛ وإن كنّا لا نلومهم مهما فعلوا، فإنّ رجاءنا أن يلتفتوا ناحية جوع الروح إلى العدالة والحرّية، وأن يتمسّكوا بهاتين، وأن تصرخ الروح فيهم: هيهات منّا الخضوع. ونكتب ما كتبناه واللبنانيّون (والسوريّون) تحت ضغط الاستعمار وضغط خونة الداخل، والاثنان يريدون لنا أن نُقتَل، أن نعيش تحت التهديد بالقتل، أن نكون بلا أمان جسديّ ونفسيّ، وبلا سلاح ندافع به عن حياتنا، أي بلا حرّية وبلا كرامة. مقابل ماذا؟ مقابل وهم. وهم بحياة «سعيدة» تحت جزمة الاستعمار. ولكنّهم يزيّنون الوهم بأخبار خياليّة عن البحبوحة التي ستحدث ما إن نستسلم (كأنّ العدوّ كاريتاس)، يتحدّثون عن الخبز النازل من نخيل الاستعمار رطباً جنيّاً على الشعب الذي يهزّ جذوع الوهم. أكنّا مؤمنين بحقيقة حصول ما كتبناه فوق، أو معتقدين بأنّها مجرّد حكايات مفيدة، فلنُصغِ إلى قلوبنا، إلى أنفسنا التي صرخت أكثر من مرّة في تاريخنا، «حرّية، حرّية»، منذ رفض فمنا وقال «لا» ونحن في عمر السنتين. فلنتمسّك بما قاله الأنبياء، وبالأمر العمليّ الذي يقولونه ويحتاج إليه القلب منذ الطفولة: نريد حرّية وكرامة قبل الخبز. وكأنّ يسوع قال مرّة: اطلبوا الحرّية والكرامة أوّلاً وعندها يُعطى الخبز ويُزاد. الإيمان ليس مجرّد كلمات نردّدها وطقوس نتّبعها ومواسم تتكرّر، هي طريقة حياة نتمثّلها وإلّا هي لا شيء. ولهذا تتكلّم الكتب المقدّسة عن المنافقين، أولئك الذين يقولون آمنّا وطريقة حياتهم تقول لمّا يدخل الإيمان قلوبهم، بل مثّلوا الإيمان تمثيلاً بطقوس لا تغيّر طريقة الحياة. لنطلب الحاجة الكبرى، تلك التي من دونها لا يمكننا أن نتنفّس: الحاجة إلى الله كمصدر حقيقيّ للحياة، فهو الحياة نفسها، وهو ما يدفعنا لرفع قبضات الروح، وللقول لشياطين التطبيع والخنوع والإخضاع والإبادة: ليس بالخبز وحده نحيا، بل بالحرّية التي لنا في الله، والتي تجعلنا نحتمل كلّ شيء، ونصبر على كلّ شيء ونرجو الحياة في وجه الله؛ وإنّنا لنترجم هذا الإيمان مقاومة لخديعة الشياطين وسعياً إلى الحرّية والعدالة، لنخرج من مجرّد الاستمرار بالعيش لتكون لنا الحياة وتكون أوفر؛ ولنصرخ بالصوت والعمل: هيهات منّا الرضوخ، هيهات منّا الذلّة. Comments are closed.
|
الكاتبخريستو المر الأرشيف
October 2025
Categories |
RSS Feed